غزة والسودان- صمت العالم فضيحة إنسانية تُزهق الأرواح.

المؤلف: نجيب يماني08.21.2025
غزة والسودان- صمت العالم فضيحة إنسانية تُزهق الأرواح.

في هذا القرن الواحد والعشرين، حيث العواصم تتلألأ بناطحات السحاب الزجاجية، وتتباهى الدول بمنصات حقوق الإنسان ومواثيق العدالة الدولية، وفي عالم يرفع لواء الحرية عالياً، وتُعقد فيه المؤتمرات والقمم من أجل إحلال السلام، وتصدح فيه الأناشيد والأغاني عن الطفولة البريئة والعيش الكريم، في هذا العالم المزدحم بالوعود الكاذبة، تُزهق بلا رحمة أرواح الأطفال في غزة المحاصرة جوعاً، وتُدفن جثامين الأبرياء مرتين في أرض السودان المنكوبة، والإنسانية جمعاء تقف صامتة كأنها في مقبرة موحشة!

أي فاجعة أدهى وأمرّ من أن يموت الإنسان جوعاً وبطء أمام أنظار العالم أجمع، وعلى مسمع منه دون تحريك ساكن؟!

أي عار يلطخ جبين البشرية حينما تتحول الطفولة الغضة إلى هياكل عظمية واهنة تتحرك بصعوبة ثم تسقط إلى الأبد بلا حراك؟!

في غزة، حيث لم يعد الجوع مجرد كلمة عابرة، بل تحول إلى سكين مسموم يطعن أحشاء الصغار، وحيث لم يعد الحصار مجرد إجراء عسكري روتيني، بل أصبح مشروع إبادة جماعية بطيئة وممنهجة، يُحكم فيه على الناس بالموت البطئ لا بالقصف المباشر، بل عن طريق تجويع ممنهج وقاتل، وصمت دولي مريب لا يقل فتكاً عن القنابل المتفجرة.

تتبادل الدول والمنظمات تصريحات الشجب والإدانة الرنانة، وتستعرض المنظمات باهتة الأثر الدولية بياناتها الخاوية، بكلمات جوفاء مثل "نشعر ببالغ الأسف والاستياء"!

لكن لا أحد يبادر إلى فعل حقيقي ملموس من أجل إنقاذ أطفال أبرياء يموتون جوعاً تحت أنظار البشرية جمعاء، والعدد ليس بقليل إطلاقاً، فقد تم تصنيف أكثر من ثلاثين ألف طفل يعانون من حالات سوء تغذية حادة، وهناك ما يقارب مئتين وستون ألف طفل دون سن الخامسة في أمس الحاجة إلى الغذاء والدواء بشكل عاجل، هذا بخلاف أولئك الذين فارقوا الحياة جوعاً.

في غزة اليوم المنكوبة، لم تقتل القنابل الجميع فحسب، بل تركت من تبقى من الأحياء ليموتوا جوعاً وقهراً!

أمهاتٌ مفجوعات عاجزات عن إرضاع أطفالهن الرضع، وشباب يافع يتحولون إلى أشباح متهالكة، وطفولة بريئة تزحف ببطء نحو الموت المحتوم، حتى الأكفان لم تعد متوفرة بما يكفي لكثرة أعداد الموتى من الجوع والقصف العشوائي من أجل الحصول على كسرة خبز، أي موت هذا الذي يختار ضحاياه بالحرمان والتجويع؟ وأي قسوة هذه التي تجعل الجوع أبطأ سلاح إبادة عرفته الحروب الحديثة؟ 

ومع ذلك، لم تتحرك ضمائر الأمم، لم ينتفض العالم الغارق في سباته العميق، لم يُقطع شريان الإمداد والدعم عن الجلاد المستمر في غيّه.

لم تتم محاسبة إسرائيل على جرائمها، بل تُكافأ بمزيد من الصمت المخزي، ومزيد من التواطؤ المشين، ومزيد من الأسلحة الفتاكة! عالم يسوده الرعب والفزع، وحروب عبثية مدمرة يعيشها السودان، حيث الجسد العربي والأفريقي ينزف أنهاراً من الدماء، حرب لا طائل منها أتت على الأخضر واليابس، قتلت الأطفال الأبرياء، وهجّرت النساء الثكالى، ومزّقت البيوت الآمنة، هذا بالإضافة إلى الاغتصابات والانتهاكات غير إنسانية التي لا يمكن تصورها، لكن الفضيحة الكبرى لم تتوقف عند هذا الحد.

فالموتى يُدفنون في المنازل والأفنية لعدم القدرة على الخروج إلى المقابر!

القبور تُشقُّ على عجل داخل المنازل، في أفنية الدور والغرف الضيقة، خوفاً من الرصاص الطائش القاتل، فآلة القتل الجهنمية لا تسمح حتى بوداع أخير كريم للمتوفى، فالجميع يقاتلون ويمارسون الإبادة الجماعية بشتى الطرق؛ الجيش وقوات الدعم السريع والميليشيات الإرهابية المتطرفة، الأم المسكينة تدفن فلذة كبدها بيديها المرتجفتين، والزوجة المكلومة تُهيل التراب على زوجها الحبيب داخل فناء الدار المتواضع.

وحين تهطل الأمطار الغزيرة، تُكشف القبور عن الجثامين، فتعود العائلة المنكوبة، لتدفن فقيدها للمرة الثانية! أو تنقله إلى المقابر الرسمية عندما يخمد صوت الرصاص القاتل في وداع أخير متكرر وألم يعتصر القلوب، أي ذل هذا الذي لا يُضاهيه ذل؟!

أي انعدام للكرامة الإنسانية أكبر من أن يتحول الوداع الأخير إلى فعل مستحيل التحقيق، وأن يكون الموتى بلا مأوى حتى تحت الأرض، هل سمع العالم بهذا؟ هل تحركت الأمم المتحدة لوقف هذه المأساة؟ هل اهتزت المنابر وصعدت الأصوات؟ هل أصدر مجلس الأمن قراراً ملزماً بوقف هذا العبث والجنون؟ لا شيء من هذا القبيل.

الصمت القاتل هو الرد الوحيد. أين أمريكا التي تدعي زوراً وبهتاناً قيادة العالم الحرّ؟ أين أوروبا التي لا تتوقف عن الحديث عن «الكرامة الإنسانية»؟ أين الشعوب التي ملأت الدنيا صراخاً وعويلاً لأجل حقوق الحيوانات؟ أين بريجيت باردو بطلتها البهية من وحشية قتل الأطفال والمدنيين، أين الغوغائيون الذين تملأ خطاباتهم حماسة جوفاء عن قضية الأمة الأولى؟ 

يتشدّقون بالإنسانية الزائفة، ولكنهم لا يعرفون منها إلا قشورها، يتغنون بالكرامة الكاذبة، لكنهم يدوسونها بأقدامهم كل يوم تحت أقدام مصالحهم الأنانية، غزة تموت ببطء شديد، والعالم يدون أرقاماً جديدة في سجلات الإحصاء الباردة، لا في صفحات الرحمة والإنسانية.

والسودان يتمزق ويتلاشى، ولا شيء يتغير سوى القتل المستمر ورائحة الموت النتنة، إنها ليست مجرد مأساة إنسانية عابرة، بل هي فضيحة كونية مدوية كشفت كذب الشعارات البراقة، وسحبت الستار عن كل الأقنعة الزائفة.

لم يعد هناك من مجال للحديث عن «العدالة الدولية» المزعومة، ولا عن «حقوق الإنسان» الكاذبة، ولا عن «العالم المتحضر» المخادع. كلها أكاذيب واهية تكشف زيفها حقائق الواقع المرير، فيا أيها العالم الذي فقد ضميره وإنسانيته، 

لا تزعم أنك ناطق باسم الإنسانية وأنت تتفرج على الموت والدمار.

ويا منظمات العالم المتخاذلة، إن كنتم لا تستطيعون حماية من بقي حيّاً فلا تملأوا فضاءاتنا بأكاذيبكم المزعجة، ولا تدّعوا كذباً أنكم تمثلون الضمير العالمي وتمثلون القيم الإنسانية النبيلة، بدل ذلك أوقفوا الحروب المدمرة التي أشعلتها الأيدي الماكرة الخفية.

دعوا من مات يُدفن بسلام وكرامة، وساعدوا المشردين على العودة إلى بيوتهم بكرامة وعز، واطعموا جائعي غزة بكرامة وإنسانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة